
الإحسان
لمن أحسن
كانت ليلة قمراء جميلة جداً وكانت
أنوار البدر تسقط علي جبهة خزنة فرعون، ذلك البناء الأثري الخالد في البتراء
بجنوبي الأردن فتزيد من جمال الأثر، وبدائع ألوان صخوره العجيبة المشهورة، وكان
الوقت ربيعاً تحلو فيه الإقامة لشيوخ القبائل قريباً من عاصمة الأنباط الجميلة
البتراء في تلك السنة من عام 550هـ أي قبل معركة حطين بثلاث وثلاثين سنة .
كان الشيخ منصور الطائي سيداً
مطاعاً في جنوبي الأردن فلا عجب أن نصب سرادقاً ضخماً ربما كانت سعته مقدار عشرة
من بيوت الشعر العادية هذا فضلاً عن جمال السرادق وزخرفة جدرانه الداخلية بأحلى
الرسوم ذوات الألوان البديعة .
كان الشيخ منصور يتوسط الديوان
وعلي مسافة منه أباريق القهوة النحاسية وجرن مزخرف لدي القهوة بعد تحميصها، وكان
الشيخ صامتاً يفكر في أمر يهمه، وفجأة رفع رأسه ليقول : انتم لاشك تعرفون صداقتي
للأمير الشاعر أسامة بن منقذ، وتذكرون كيف افتداني من الأسر بعد معركتنا الفاشلة
قرب حصن شيزر علي نهر العاصي .
فقال رجل من ادني المجلس : إي
والله يا شيخ، نذكر ذلك الأمير الطيب الكريم وما أصابه من موت سائر قبيلته عندما
هدم الزلزال قلاعهم وهم يحضرون مأدبة أقامها أميرهم، لقد كان صديقنا الأمير أسامة
بن منقذ التاجي لأنه لحسن حظه كان خارج القلعة وتساءل رجل من أقصى المجلس : ولكن أين
هو الآن ؟ وكيف حياته بعد فقد جميع أهله ؟ فقال الشيخ منصور : يا هذا أين تعيش أنت
؟ ألم تسمع عن إقامته بمصر معززاً مكرماً إلى أن وقعت فتنة الفاطميين الكبرى حتى
كاد أسامة يهلك لولا أن أنقذه الملك الصالح ثم عادت الفتنة واشتد الحال فخرج أسامة
ناجياً ببعض متاعه في القافلة التي أغار عليها الصليبيون عند مويلح، وهتف احد
الرجال : وهل نجا الأمير مرة أخرى ؟ قال الشيخ : نعم من دون من كانوا في القافلة،
الرجل فارس ومتمرس بالقتال التجأ إلى البر من ناحيتنا ولم ادر اهو يتجه إلى معان أم
إلى وادي موسي، حتى جاءت رسالة منه قبل ساعة يستغيث فيها بي من بني فهيد الذين
أسرو وقد اخذوا ما معه وهددوه بالموت وقال رجل آخر : ولكن كيف أوصل الاستغاثة وهو أسير
؟
قال الشيخ منصور : لا ادري تماماً
ولكن يبدو انه قدم جائزة للحارس الذي جاءني برسالته، وقال القوم : ماذا ننتظر يا أمير
؟ وسرعان ما صهلت الخيل وقفز على ظهورها الرجال وانطلقوا كالريح، كان أسامة بن
منقذ ينتظر الموت في كل لحظة فقد صادر الأشرار منه كل شئ حتى أوراق وخاتماً من
الفضة في يده ثم ربطوا يديه وراء ظهره وراحوا بسرعة يعدون له مشنقة وحبلاً للخلاص
منه .
وفيما هو يقف مبتسماً بالذكر
والدعوات وصلت أصوات الخيول وبدت غمامة من غبار ملأ الجو من تحت سنابك الخير وصاح
صائح : يا بني فهيد ، إياكم أن تمسوا شعرة من رأس الأمير أسامة وتقدمت فرس زرقاء أسرع
من السحب عليها الأمير منصور الطائي يصيح : إياكم والأمير أسامة، إياكم فإنه أحسن
والي ووالله لا أنشدن الحياة من بعده، إياكم أن تمسوا شعرة منه .
واشتدت فرحة أسامة بصمت فأغمي
عليه ووقع ويداه مربوطتان من خلفه وأخذت الدهشة بني فهيد وروعتهم غارة الخيل
المفاجئة، وحين ترجل الأمير منصور عن فرسه تقدم شيخ بني فهيد يساعده في حل رباط الأمير
الأسير بعد أن عاد له وعيه واعتذر شيخ بني فهيد كثيراً للشيخ منصور وأعاد الاعتذار
عن قبيلته كلها ثم جئ بكل ما نهب من أسامة فسلم له ،و الأمير منصور مغتبط مسرور
وهو يكرر : الحمد لله أن جعلني اجزي المحسن بالإحسان سلمت أيها الأمير الصديق،
وكانت تلك رابع مرة ينجو فيها الأمير الشاعر من موت محقق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق